لم يكن من المتوقع أن ينسحب الدكتور البرادعى من معركة انتخابات الرياسة بهذه السرعة، فقد تريث طويلا فى البداية قبل أن يعض ترشحه للرياسة، ولقى تأييدا غير عادى، ولذلك جاء انسحابه مفاجأة مذهلة للكثيرين الذين علقوا آمالا على مرشح قوى يأتى من خارج النص، فلا هو من العسكر، ولا ينتمى إلى التيار الإسلامى، ولا هو محسوب على النظام القديم، أو خدم أو عمل فى مواقع قريبة من السلطة، أو عمل فى صفوف الناصريين، أو فى إحدى مؤسسات الدولة، بل جاء من خلفية قانونية دولية يصعب أن تتكرر بحكم ما تملكه من تجارب وخبرة دولية واسعة.
وكان ظهور البرادعى على مسرح السياسة المصرية قبل الثورة بقليل، وجرأته فى التعبير عن حاجة الشعب المصرى إلى حكم ديمقراطى من أهم الدعوات التى اتسمت بالجرأة والشجاعة، فـى ظل حكم شمولى سلطوى، وضع بها نقطة الانطلاق نحو الثورة بعدها ببضعة شهور!.
اختلف البرادعى فى أدائه وفلسفته عن سائر المرشحين، فلم يندمج مع القواعد الشعبية أو يتمسح بها كما فعل غيره، وإن كان قد حاول الاقتراب أحيانا من الفلاحين فى بعض زياراته للمناطق الريفية فى الدلتا، لم تتكرر كثيرا، ولكنه اجتذب عناصر الشباب المطالبة بالتغيير من أنصاره فى القاهرة والإسكندرية والمدن الكبرى، وقبل ذلك فى ميدان التحرير، وكلهم من النخبة وجماعات المثقفين، الذين تفرق زعماؤهم شيعا من ورائه، غير راضين على أسلوبه المتفرد فى القيادة، وكان من أكبر عوامل النقص، وربما كانت سببا فى قراره الأخير بالانسحاب من سباق الرياسة: بقاء الجمعية الوطنية للتغيير مجرد تجمع لرفقاء بدون تشكيل حزبى منظم، يقود عملا سياسيا محدد الأهداف والبرامج.
يبدو توقيت الانسحاب من معركة الرياسة قبل أيام قليلة من الاحتفال بذكرى مرور سنة على الثورة دليل على أن ما خطط له البرادعى يوم ترشحه، لم ينته إلى النتيجة التى تمناها أو أرادها!.
ولسبب ما بقى البرادعى محتفظا بمسافة بينه وبين المجلس العسكرى، واعتذر فى كثير من المناسبات عن حضور دعواته أو المشاركة فى المجلس الاستشارى الذى شكله، واكتفى بأن يقدم النصح والرأى من بعيد لبعيد، حتى بدا وكأن ثمة هوة واسعة بينه وبين سياسات المجلس العسكرى وخططه، وقد بدا هذا واضحا فى بيانه الذى أعلن فيه انسحابه من انتخابات الرياسة فى يونيو المقبل، «بعد أن خاضت سفينة الثورة طريقا صعبا تقاذفتها أمواج عاتية، ولكن الربان الذى تولى قيادتها من دون اختيار من ركابها، ومن دون خبرة له بالقيادة، أخذ يتخبط بها بين الأمواج من دون بوصلة واضحة، ونحن نعرض عليه شتى أنواع المساعدة، وهو يأبى إلا أن يمضى فى الطريق القديم، وكأن ثورة لم تقم ونظاما لم يسقط».
واتهم البيان المجلس العسكرى بأنه «انفرد بصنع القرارات، بعد أن أدخل البلاد فى متاهات وحوارات عقيمة، بدلا من الانصراف إلى كتابة الدستور أولا، وانتهج سياسة أمنية قمعية فى التعامل مع الثوار بعنف، دون أن يلقى بالًا إلى تطهير مؤسسات الدولة وبخاصة القضاء والإعلام من فساد النظام السابق».
وربما كان صحيحا أن ربان السفينة تولى القيادة من دون اختيار المواطنين ومن دون خبرة، وتباطأ أو ارتكب أخطاء نتيجة غياب الخبرة السياسية، ولكن الأمر المؤكد أنه لو لم يتقدم الجيش للدفاع عن الثورة فى بداياتها، لم يكن ليقيض لها تحقيق النجاح الذى حققته وخلع نظام الفساد من رأسه وجذوره.
والحقيقة أن وثوب الأحزاب والقوى السياسية الطامعة على الثورة، وتقاعس الشباب عن تشكيل قوى ثورية منظمة مقابلة، هو الذى ترك فراغا يسمح للعسكريين بـإمساك مقاليد السلطة دون منازع، ويضع شباب الثورة فى موقف الانتظار، انتظار الفرصة الثانية لثورة تأتى أو لا تأتى.
ليس من المتصور أن يهرب البرادعى من المعركة ليستريح بعيدا عن السياسة والمجلس العسكرى، وهو فيما يبدو عازم على البقاء فى قلب المعركة، متحدثا بلسان ضميره فى انتظار تنقية الأجواء السياسية بعد أن يطمئن إلى وجود نظام ديمقراطى دستورى.
ولكن الواضح أنه سوف ينتظر طويلا، والمهم ألا يخذل أنصاره ومريديه الذين آمنوا به، ووقروه واعتبروه نموذجا فريدا من السياسيين خلقا وسلوكا وعلما!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق