المشاركات الشائعة

الجمعة، 12 أكتوبر 2012

اشتريت إيه؟؟؟؟ بقلم إسعاد يونس ١٢/ ١٠/ ٢٠١٢ بالمصرى اليوم

■ استيقظ من نومه.. فتح عينيه وبدت نظرته تائهة.. دقق فى تفاصيل الغرفة وقطّب جبينه لحظة حتى استوعب المكان.. هذه حجرتى.. وهذا يوم جديد.. ولكنه ليس كسائر الأيام.. جلس فى سريره شاخصاً أمامه دون أن يرى شيئاً.. الساعة السادسة صباحاً.. موعد استيقاظه على مدى سنين طويلة.. ولكن هل الغرفة مظلمة.. أم أن اليوم مظلم؟؟
■ جلس وحيداً فى حديقة داره.. ممسكاً بفنجال القهوة الذى أعده لنفسه.. لم يكن أحد قد استيقظ بعد فى البيت.. نظر فى ساعته.. العقارب تقف مشلولة عند السابعة صباحاً.. رفع الفنجال ليرشف أول رشفة.. ولكن توقفت يده فى منتصف الطريق.. وكأنما توقف الكون من حوله.. حتى عصافير هذا الصباح كتمت صياحها.. اختفت أصوات الطريق.. بدا الكل وكأنه يثبت ساكناً تاركاً المساحة لذلك الخاطر الذى بدأ يتكثف كالسحاب ويغزو رأس الرجل.
أنا عملت إيه؟؟.. إيه اللى أنا عملته ده؟؟
■ تحجرت عيناه وبدتا وكأنهما عينان زجاجيتان لا حياة فيهما.. وعلى سطحهما الزجاجى مر الشريط.
■ بدا الفيلم فى أوله بطيئاً رتيباً روتينياً نوعاً ما.. إنه يرتدى بزته الرسمية منذ زمن سحيق.. وفى الصور التى تتوالى تباعاً يزدان الصدر والأكتاف برتب ونياشين.. ويعتلى الوجه تجاعيد تشى بمرور الزمن.. لكنها تجاعيد مرتاحة سالمة هادئة مستقرة.. فهو يرتقى من منصب إلى آخر أعلى.. يحمل على أكتافه مسؤولية ضخمة.. ويستند إلى معلومة تقول إنه على رأس قوة عسكرية المفروض أنها حكمت البلد لمدة تسعة وعشرين عاما.. إلا أنها نحيت بهدوء ولطف جانباً لتحل محلها قوة حكم بوليسية.. ولكن لا ضرر ولا ضرار.. فهذا لا يتصدر الأخبار ولا التسميات.. صحيح أن الحاكم ينتمى لهذا الفصيل العسكرى إلا أنه يميل إلى الحكم البوليسى.. فهو يشعر بأنه هو الذى يحميه ويؤمّنه فى الشارع.. وهو لا ينزل إلى الشارع.. إنه يقبع فى ثكناته ومكاتبه.. يستعد دائماً لدوره الطبيعى فى حماية المداخل والمخارج وسلامة الوطن.. ويحصل على كل الوهج والكبرياء التى يتطلبها هذا الدور.. يعلم فى سريرته أن الناس يحترمون المؤسسة التى يتبعها ويمثلها ويتفاخرون بهذه المؤسسة.. ولكنهم بين الحين والآخر يتململون من فكرة حكم العسكر ويودون تغييرها.
■ هناك خطر يلوح فى الأفق.. هذا الحاكم خلع بزته العسكرية منذ تولى.. وعديناها.. ولكنه يلوح بتوريث ابنه للحكم.. وهى الفكرة التى يرفضها ويتمنى مقاومتها دون تفجير للموقف.. المجموعة التى حول الحاكم وابنه قوية.. وتستقوى.. وهذا ما لن يقبله لا هو ولا كثيرون ممن يحيطون به.
■ فى مفاجأة غير متوقعة.. شأن كل الأفلام الدرامية عالية النبرة.. يدق الجرس الأول.. وتتحول الدراما إلى مظاهرات تملأ الميدان.. الأمر خرج عن المظهر الاعتيادى الذى كانت تنهيه الشرطة بأساليبها المعتادة.. المواجهة بدأت تحتدم.. الدراما بدأت تسرع.. والأحداث تتلاحق.. هو يشاهد عن بعد.. يتابع مثل باقى الشعب.. تمت المواجهة وحدث الصدام.. هناك أزمة.. الحاكم بدأ يشعر بأنه فى مأزق.. بدأ يصطدم مع حليفه الأعظم، رجل الشرطة، الذى فى موجة عناد وكبرياء وغرور يسحب قواته.. والبلد يخلو من حاكمه الفعلى فى لحظات.. وتسود الفوضى ويعم الفزع وتظلم البلاد.
■ الآن يستعد البطل للظهور.. تتتابع الكادرات فى سرعة وهو يعطى الأوامر بنزول الدبابات وتحليق الطائرات لتطمين الناس بأن لهم كبيراً وظهراً.. وأنه اختارهم هم وليس السلطة.. الناس تهلل من الفرحة والامتنان.. تهرع نحو الدبابات والجنود لتقبلهم وتحتضنهم وتعطيهم الورود والحلوى وتلتقط معهم الصور التذكارية.. التقط الناس أنفاسهم.. ظنوا أن الأزمة على وشك الانتهاء ولاح الأمل فى الأجواء.. ثم ظهر البطل الهمام بكامل زى الميدان فى مشهد سينمائى مهيب.. فهدرت الجماهير بالترحيب، وجرت إليه تمد أكف السلام والحب.. ولدت عبارة «الجيش والشعب إيد واحدة».
■ الآن هو سيد الموقف.. ينتفض شامخاً جليلاً، فهو المنقذ، وهو الذى وقف بجوار الشعب، وهو الذى صرح بأنه لم ولن يقف مع النظام والظلم والقهر الذى مورس على هذا الشعب طويلاً طويلا، والذى وصل إلى ذروته.. جعل من نفسه الأمل والهدف.. ومن المؤكد أنه لم ينم فى تلك الليلة.. فقد كان الاستقبال يفوق سماء الخيال.. لحظة سيقف عندها ما بقى له من عمر.. فهى التى يتمناها أى فارس نبيل.
■ يبدأ الشريط فى استعراض المشاهد بسرعة أكثر.. ثورة تكتمل وتنضج وتصبح حديث العالم.. الميدان ملىء بالوجوه المضيئة.. فى غرف الرئاسة اجتماعات تدور.. هناك زاوية خفية دائماً لا تظهر على الشريط.. هو الوحيد الذى يراها.. مساومات ومخاطبات ووجوه تتبادل الظهور والاختفاء فى الكادر.. الحاكم يعلن أنه سيذهب ويكلفه هو ومجلسه بإدارة شؤون البلاد.
■ وتمر الأحداث.. متسارعة متلاحقة.. أطياف من الناس تحضر إليه.. مجالس تشمل كل الأطياف.. ثم تتناقص رويداً رويدا هذه الأطياف.. تختفى وجوه وتثبت أخرى.. أناس يمدون أكفهم بالتحية حضوراً وآخرون ذهاباً.. ذهاباً بلا عودة.. الأصوات تخفت والحديث يتحول إلى شبه همس.. فما يتم إبرامه من اتفاقات لا يأخذ طريقه للعلن.. بينما بعض الأيدى تدق الأبواب طالبة الدخول بلا مجيب.. فى الميدان حدث جلل.. تلك الثورة الرائعة تزداد شهرة.. والعالم يرقب.. ونحن هنا فى الغرف المغلقة لا يعجبنا هذا.. بجوار أذنيه تقترب الأفواه.. هذا شباب لا يقف عند حد.. كله حماس ووعى وأمل وإصرار.. ولكنه يخلو من الحكمة وليس لديه قيادة.. يفتقر إلى التنظيم.. يفتقد القدرة على التخطيط.. يحتاج إلينا مجتمعين.. نحن شيوخ هذا الزمان.. كل ما نرغب فيه هو أن نعمل فى هدوء.. بدونهم.. إذن، علينا أن نصرفهم ليعودوا إلى بيوتهم.
■ مشاهد أخرى تتتابع.. الأولاد لا يعودون إلى بيوتهم.. يجد نفسه فى لحظة قادراً على اتخاذ القرار.. ولحظات أخرى عاجزاً.. ربما لم يكن مهيأ لكل هذا الحمل، ولم يتصور أن الأمور ممكن أن تتطور.. ينظر حوله ليجد دائماً هؤلاء الذين احتلوا صدارة اجتماعاته جاهزين بالنصيحة والتوجيه.. هذه الزاوية من الكادر التى لا يراها غيره تشى بأنه فى كثير من الأحوال استمع ونفذ.. كانت كل الكلمات والإيحاءات تؤدى إلى نتيجة واحدة.. لكى نحقق ما نريده، علينا أن نقوم بإخصاء هذه الثورة.. نقطة.
■ فى تصاعد درامى يعجز أى كاتب سيناريو عن صياغته.. تتلاحق الأحداث وتتكرر الموقعات ويتساقط الضحايا.. والفاعل هو دائماً الوجه الخفى الذى يحتل الزاوية غير المرئية من الكادر.. يسوء الحال ويتخبط الشعب وتبدأ معالم الوطن فى الاختفاء.. بينما تعلو رايات غريبة، وتهدر أصوات قبيحة، وتسكن الغربة قلب أولاد البلد الواحد.. يصل الشريط الذى يمر أمام عينيه الزجاجية الثابتة إلى الذروة.
■ فى غرفة شبيهة بتلك الغرف التى تم فيها كل التخطيط.. يُطلب منه أن يعود إلى منزله.. هو صاحب الزاوية غير المرئية.. وهو الوحيد الذى يعرف لماذا ــ بدون تعليق ــ ينظر إلى الأرض ويستدير ليخرج من المكان تاركاً خلفه تلك اللحظة الجليلة التى وقف فيها بين أبناء الشعب فارساً مغواراً نبيلاً جاء لنصرتهم.
■ برجفة خفيفة تعود الحياة لأصابعه التى تجمدت حول فنجال القهوة.. وتغزو تلك العيون الزجاجية أطياف دمعة.. يضع الفنجال.. يلتفت حوله فى بطء على صوت العصافير التى كانت قد خرست منذ وهلة.. فقد عادت تصيح ولكن فى حزن وهمس.. وكأنها تنتحب.
أنا عملت إيه؟؟.. إيه اللى أنا عملته ده؟؟.. البلد كان فى حضنى.. أنا كنت ف حضن الناس.. وخلاصهم كان على إيدى.. أنا استصعبت المهمة.. ولَّا خفت على نفسى.. ولَّا خفت منهم.. طب بعت ولَّا اشتريت؟؟.. بعت نفسى ولَّا البلد؟؟.. واشتريت إيه؟؟.. لا يمكن أكون كنت متخيل إن البلد يوصل للحال ده؟؟.. الحل كان ف إيدى.. أنا اشتريت إيه؟؟.. أنا عملت إيه؟؟
■ فى خطوات بطيئة، دلف إلى مدخل البيت واختفى.. وقفت العصافير على الأغصان ترقبه يختفى وهى ترفرف بأجنحتها مصدرة حفيفاً خافتاً.. وكأنها تنتظر حدثاً جللاً.. فجأة صرخت فى ذعر وطارت مبتعدة عندما سمعت صوت طلقة الرصاص.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق