
محمد خير - التحرير
إذا كنت يساريا اشتراكيا، فإن خياراتك واضحة ومحددة، فلا بد أن تتضامن مع الفقراء والكادحين، وأن تطالب بالعدالة الاجتماعية، ولا يمكنك أبدا تحت أى ظرف، أن تدين إضرابا عماليا، أو ترفض مجانية التعليم، وإلا سقطت عنك الصفة اليسارية.
وإذا كنت ليبراليا، فأنت مع دعم الحريات العامة والخاصة، ومع حرية التجارة والسوق الحرة، ولا يمكنك تحت أى ظرف، أن تطالب مثلا بعودة المرأة إلى المنزل، أو عودة القطاع العام إلى الدولة، وإلا فلا يمكن أن تكون ليبراليا تحت أى مسمى.
وإذا كنت قوميا عربيا، فأنت تطمح إلى الوحدة الشاملة للشعوب العربية، وتعتبر أن تحرير فلسطين أولوية قصوى، ولا يمكنك تحت أى ظرف، أن تدعو للتطبيع مع إسرائيل، أو أن ترفع شعارات من نوع «مصر أولا»، وإلا لا تعد قوميا عربيا.
أما لو كنت ناشطا حقوقيا، فلا بد أن تدافع بلا هوادة عن حقوق الإنسان، وعلى رأسها حرية الرأى والتعبير، ولا يمكنك تحت أى ظرف، أن تتجاهل قضية تعذيب، أو حبس فى قضية نشر، وإلا لا يمكن أن نسميك ناشطا حقوقيا.
كل ما سبق واضح ومعروف، فماذا عن التيار الإسلامى، أو المتأسلم، حسب التسمية التى تفضلها؟ الواقع إن خيارات الإسلام السياسى أوسع بكثير جدا من تلك النماذج السابقة.
فلو كنت إسلاميا، يمكنك أن ترفض الأحزاب وتكفر الديمقراطية، لأنها «تمنح الحاكمية للشعب بدلا من الله»، ومع ذلك، وبمجرد أن تتاح لك فرصة المشاركة السياسية، فإنك قد تؤسس فورا حزبا واثنين وسبعة، وتترشح على جميع المقاعد فى جميع الدوائر، قائمة وفردى، فئات وعمال، لدرجة أنك قد تصبح الأكثر ترشحا على الإطلاق من أى فصيل سياسى لم يعتبر الديمقراطية كفرا فى أى وقت.
يمكنك أيضا، أن تحارب السفور والتبرج، ومع ذلك، فإنك لا تمانع أبدا فى الظهور مع مذيعة متبرجة، فى سبيل دعايتك الانتخابية، مع أن المذيعين الرجال كثيرون، لكنك لا ترغب فى تضييع «فتفوتة» دعاية.
ويتصل بالحالة السابقة، أن تشن هجوما هائلا ضد رجل أعمال قبطى «ساويرس من دون ذكر أسماء»، وتقاطع شركاته وتدمر بطاقاته وتحارب قنواته، ومع ذلك، يظهر كل مرشحيك الإسلاميين الكبار، سواء مرشحى الرئاسة أو ممثلى الأحزاب، على قناة ساويرس، حرصا أيضا على فتفوتة الدعاية إياها.
يمكنك كذلك، أن تكون صارما تجاه الأقباط، مطالبا إياهم بدفع الجزية، وبأن «يلايموها»، ومهاجما «القساوسة المتعصبين»، فإن جاءت سيرة إسرائيل، يمكنك أن تهدأ، لأن «بيننا وبين إسرائيل معاهدة»، ولأن «المسلم يحترم عهوده»، ولأن «هذا أمر منوط بالبرلمان»، إلى آخر هذا الكلام الحنون.
أما المرأة، فقد تكون فى نظرك «أميّة ومقلدة»، و«مثيرة للفتنة»، وعملها مكروه، وتغطيتها واجبة، ومنعها من الاختلاط فريضة، ولكن ما إن تكتشف أن قانون الانتخابات يشترط وجود امرأة واحدة على الأقل فى كل قائمة، إذ بك ترشح عشرات النساء، مع أنه «لا ولاية لامرأة» ومنصب النائب ولاية لا شك فيها، لكنك تتجاوز عن ذلك فى سبيل عدم خسارة فرصة القوائم، مع أن «مقاعد الفردى كتير».
طبعا، فى الاختلاف رحمة، ولو أن التناقضات السابقة كانت محل خلافات بين تيارات إسلامية متعارضة لهان الأمر، لكن المشكلة أن من يكفّر الديمقراطية هو نفسه من يترشح من خلالها، ومن يلعن التبرج هو من يظهر مع المذيعات «المتبرجات»، ومن يتهم المسيحيين بتكديس السلاح فى الكنائس هو نفسه من يحترم معاهدة السلام مع إسرائيل، ومن يشن الهجوم على ساويرس لا يستحى من الظهور على قنواته، ومن يرى فى المرأة عورة هو من يرشحها على قوائمه لمصلحة انتخابية. وهكذا فإنه بينما يمكن معرفة مبادئ وحدود اليسارى أو الليبرالى أو القومى، يضعنا الإسلامى فى معضلة إذ يحرّم الديمقراطية ويحللها حينما يشاء، ويرشح المرأة أو يمنعها وقتما يريد، باختصار، إنه يحتفظ لنفسه بجميع الخيارات.
هل هو ذنب الإسلام؟ كلا بل هى النتيجة الحتمية للخلط بين الدين بتأويلاته المتعددة، والسياسة بمصالحها المتغيرة، خلط يؤدى إلى انتهازية لا مفر منها، بحيث يستحيل معرفة الموقف الحقيقى «والنهائى» لأى فصيل إسلامى من أى موضوع، بل يستحيل معرفة مدى التزام الإٍسلاميين بأى وعد قطعوه على أنفسهم (ولنتذكر كم تغيرت نسبة مشاركة الإخوان فى انتخابات البرلمان)، هل هناك ما يسىء إلى الإسلام أكثر من أن يكون عدم الالتزام بالوعود سمة كثير من الإسلاميين؟
المنطق البسيط يقول إنه لا يصح أن تقول شيئا وتفعل ضده، لكنهم يقولون «الضرورات تبيح المحظورات»، متناسين أنها قاعدة فقهية دينية فحسب، قد تبيح لصائم أن يفطر أو لمسلم أن يأكل الميتة فى ظروف معينة، أما استخدام تلك القاعدة فى السياسة فيحولها إلى شىء آخر تماما، هو «الغاية تبرر الوسيلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق